تلك الليلة الصيفية الهادئة، لم تكن سوى ليلة عابرة من ليال كثيرة، تفرّقت بها الدروب، وانكسرت فيها خواطر الوحدة والغربة.
اعتراها الامتعاض من ما مضت عليه الأيام، استنكرت احتجابها عن الحياة، لكنها أقرّت أنّه قرار اتّخذته، بكامل وعيها ومعطياتها في حينه، ولكن أيصلح أن يستمر لأكثر من عشرين عامًا.. صمت الفكر لدقائق مستمعًا لنبض القلب، ذاك الذي لم يتوقف يومًا عن سؤالها في شأن الحياة ومبتغاها، بدايتها ومنتهاها، تسمّر الزمن فيها دون ضحكة يذكرها، أو متعة نبض لأجلها.. وفي خضم ثورة أسئلته، بعدما صمت دهرًا، علمت أنّها أضاعت عشرين عامًا في الغياب، لم تجن منها سوى العذاب، وتساءلت، ترى هل يمكنني أن أعود؟
كتبت لك الكثير من المراثي، وقصائد هجاء في كل موقف بحثت عنك فيه ولم أجدك..
لم يكن لديّ ما فجعني بالحياة كفجيعتي بك، فرحيلك عني لم يكن مجرد حادثة جاءت مباغتة، بل كان موتي وموتك في ساعات الصباح يتكرر كل يوم.
أجل أبي، لم أغفر لك يومًا رحيلك عني مبكرًا، ومع كل سكين يغرز في ظهري أذكرك وأتساءل أتراه كان ليغرز هنا لو كنت موجودًا.. كم من الخيارات ندمت عليها وسألتك رأيك ولم تجبني
أعلم أنك تسمعني
أعلم أن موتي اليومي لم يكن في غفلة منك، لأنك السبب فيه، فلم أجد بعدك من يمنحني السكينة، من يمنحني تلك العاطفة التي كنت تغرقني بها، وكأنك كنت تزودني بما يكفي لما هو آت من بعدك في عمري
بك أواجه اليوم أقسى منعطف في حياتي ولك أفعل ذلك لا لنفسي، فلو لم تكن أنت كما كنت ما اكترثت اليوم لما أصبحت.
كنت وطني وكنت نداءك فلما غربتني باكرًا في رحلتي، أكاد لا أغفر لنفسي بعدي عن قبرك، ولا أغفر لك وجودك فيه
.......
مازلت أحلم بك كلما طرق بابي أن أجدك خلف تلك الكتلة الصمّاء
مازلت أغيب في حلمي معك نحو تلك الزرقة على شاطئ ذهبي كنت تتعمد أن تحملني إليه، أو ربما حملته إلي.
أتراك سترسل طيفك هذه الليلة تمسح عن عيني دمعها، وتزيل من قلبي كل تلك الشظايا التي خلفت بغيابك؟
طال غيابك عني في صحوتي والمنام، وطالت غربتي بين موت وسقم يأبى أن يرحل يا أبتي
جاءته متّشحة بالسواد حزينة واستقبلها ثائرًا هادر الصوّت عنيف خلع عنها وشاح الحزن الذي غطّى وجهها وبدمعها اغتسل البحر ذاب في سواد عينيها المساء وانقشعت معه سحب الشقاء تسلل البرد إلى قدميها للمرة الأولى تشعر به يجتاحها يغرقها ببحور صافية اختزنها من دمعها قال لها: الله فقالت مردّدة حتى ابتلعها الغياب الله
خرجت ذات مساء عازمة الهلاك في مياه البحر، اختارت وقتًا يكون فيه الجميع قد غادروا إلى أعشاشهم، المضيئة أو المظلمة لا يهم، لكنهم امتلكوا أعشاشًا وهي ملّت الوقوف وحيدة على غصنها الميّت.
خرجت تلهو بخصلات شعرها، وتستذكر لحظاتها، التي لم تختلف كثيرًا عن سواد عينيها، لفحتها نسمات هادئة.. استقرت نفسها، وهي تجد السبيل إلى الموج، حيث أرادت أن يكون وداعها الأخير للأرض في البحر.
داعب الرمل قدميها، وصولاً إلى الماء، وقفت هناك، والموج يأتي ويذهب والرمل يغوص بها أكثر، ظلّت طوال الوقت تفكر بسنيّها التي عاشت، وحيدة على ذاك الغصن الأخير، للشجرة الأخيرة، الشاخصة على تاريخ الأمم في مماتها.
لم تحلم بوداع أخير للأرض أجمل من ذلك، بدأت تخترق الأمواج، واحدة تلو الأخرى، حتى أغرقها الماء فيه، استقبلها بحفاوة المنتصرين.
أفاقت بعدها وسط جزيرة تحمل شجرة وحيدة، ذات غصن وحيد، فعادت لتقف عليه تتأمل الموج، ويداعب خدّها النسيم.
لطالما كانت العثرات سمة تميّز طرقها كافة، في بحثها عن الحقيقة، عن وطن تسكن إليه، وربما أرض تدفن فيها، دون أن تشعر بغربة.
سكاكين عدّة سارت تحملها في ظهرها، وهي تبتسم، غدر تلو آخر، وهي تبتسم، أيقنت أنَّ قدر الله لا راد له، وفي الوقت نفسه قرّرت أنَّها لن تكون يومًا في منأى عن الأحزان.
صبرت على نزفها حتى غادرت أخر قطرات دمها الجسد، وماتت تبتسم لمن جاء مودعًا، ومن جاء حزينًا، وكذلك لكل من جاء شامتًا بسقوطها.
الغدر لدى البعض عادة، ولدى آخرين خيانة عظمى، قد لا يحتمله البعض، إذ يخلّف لديهم جرحًا قاتلاً، ينثر سمّه ببطئ في الجسد حتى يقتل ما تبقى للقلب من رمق أخير يحيى به.
لم تكن تلك الساعة ببعيدة عن المخيلة، لكن حضورها كان مفجعًا، حين اختارها حبيبة لا زوجة، في إعلان صريح أن الخطوة الأولى كانت خطيئة، وكل الدرب الذي ساراه معًا كان وهمًا وليس حقيقة، حتى الأزهار التي زرعاها معًا ذبلت وماتت، ليبقى الأصيص من بعدها فارغًا.
سقطت منها دمعة، في لحظة غادرة، سقطت تسأل القلب، إلى متى تقبل بالردي، إلى متى تختار الألم على الحياة وتتركنا ننهمر واحدة تلو الأخرى في وحدة وعذاب.
في لحظة غادرة، كان العناق البارد موتًا لأخر لحظات الضعف.
من هنا نعود إلى البداية، من هنا سنكتب وقفة أخرى بعد السقوط.