جلجامش

ملحمة جلجامش عبارة عن نص شعري طويل مكتوب باللغة الأكادية البابلية في اثني عشر لوحاً فخارياً. وجدت الألواح في مكتبة آشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي بعاصمة آشور نينوي. نص نينوي هو سليل نص أقدم منه بكثير دوّن خلال العصر البابلي القديم، واستلهم كاتبه عدداً من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية التى تدور حول جلجامش، وبعض الأخبار المتفرقة المتداولة عنه، وحاك من ذلك نصه الذى نسميه اليوم بـ “النص البابلي القديم”.



تجري أحداث الملحمة وفق الملخص الآتي:


كان جلجامش ابناً للإلهة “ننسون” حملت به من ملك مدينة “أوروك” المدعو “لوجال بندا”، فجاء ثلثه إنسان وثلثاه إله:


في الثلث إنسان وثلـثـاه إلــه لا نــظيـــر


في الهيئـة المثلى لـه عبر المدى عبر الدهور


والرأس مرفوع كما الـثور العتي، هو القـدير[1]




حكم مدينة “أوروك” وهو لازال في مقتبل العمر، فطغى وبغى على أهلها حتى ضاقت بهم السبل، فحملوا شكواهم إلى مجمع الآلهة يطلبون منها العون على رد مليكهم إلى جادة الصواب:


“آرورو”[2] قد خـلقت لهم ثـوراً يباشر ما يريـد


وســـلاحه لا يرتـديـه بـبأســه بـطل مـريـد


وعلى ضجيج طبـوله يسـتيقظ الشـعب العبيد


“جلجامش لا يترك ابـناً للأب الراعي الرحيم


والـظلم مـقترف عـلى مـر الليــالي مـا يــقيم


لـكنـًه الرّاعي، لـ “أوروك الـممنـعة، الوســيم


بل إنَه الـراعي القـوي وفي سـجايـاه الحكــيم


يـطأ البنـات فلا تـظل عـفيـفـة بـكـر حـصـان


وينـال مـن كـل الـعـرائس مـا يشـاء وبالسـنان”[3]


أصـغى لشـكوى الـظلم من أهل الـمرارة والهوان


أهـل الســـماء فكـلمـوا رب المـــدينــة باتــزان






استمع الآلهة للشكوى وارتأوا خلق ندٍ لجلجامش يعادله قوة ليدخل الاثنان في تنافس دائم يلهي جلجامش عن رعيته، وعهدوا بهذه المهمة إلى الإلهة الخالق “آرورو”، المعروفة في أساطير بلاد الرافدين بأنها خالقة الجنس البشري:


ســمع الإلــه[4] شــكاتهم متألميـن مـكـرريـن


فدعوا جميعاً قدس “آرورو” العظيمة قائلين


“جلجامش” هذا خلقت، فهل خلقت له عديلا؟


في ضجة القلب الجريء، وهل جعلت لـه مثيلا؟


كي يشـغلا، يتنافسا و”أوروك” تخلو، لا ذليلا”




فقامت “آرورو” بخلق “إنكيدو” من قبضة طين رمتها في الفلاة:


سـمعت “آرورو” قولهم وتمثلت رسـم الإلـه


“آنو” العـظيم وغاص كـفاهـا لطهـر بالمـياه


وبكفها قـد جـمعت طيناً وألـقت في الـفلاة


فإذا بانكيدو العظيم يعيش في جوف الخلاء


من نسل “نانورتا” [5] إله الحرب أو رب الهواء


متوحش ولباسه من صنع “ســــامـوقــــان”[6]




نشأ إنكيدو مع الغزلان في البراري، يطوف الفلاة مع القطعان كواحد منها:


يرعى الحشيش كأنه بعض من الغزلان:


يرد المناهل ظامئاً يـرعى مع القـطعـان


ومـع البهيمة قلبـه إذ يرتـوي نشــوان




وفي أحد الأيام رآه صياد فتى وهرع إلى أبيه يحدثه بشأنه، فاقترح عليه الأب أن ينقل الخبر إلى ملك البلاد.


“ابني” في “أوروك” جلجامش يقيم فلا يريم


ما بزه بطل عنيد، لا ولا رجل حكيم


رجل قوي عزمه كشهاب “آنو” الثاقب


فاذهب ويمم وجهه وأخبره – تلك رغائبي –




مضى الصياد فمثل في حضرة الملك وقص عليه خبر الرجل الوحش، فاهتم جلجامش بالأمر ورغب في إحضار ذلك المخلوق الغريب إليه. أمر كاهنة حب من معبد “عشتار” أن تذهب مع الفتى إلى البرية وتحاول استمالة ذلك الرجل ثم تأتي به إليه بعد أن يفئ إلى أحضانها ويأمن إليها:


“جلجامش”- قال – العظيم الراجح العقل الملك


“يا أيها الصياد يا هذا الفتى خذها معك


من كاهنات الحب تكسر بالأنوثة ما امتلك




تكمن المرأة والفتى عند النبع الذى يرده إنكيدو للشرب مع القطعان. وفي نهاية ثلاثة أيام من الانتظار يظهر إنكيدو:


“هو ذا فتاتي- حرري الثديين تحريراً جميلا


ودعيه يقطف من ثمارهما ولا تبقي خجولا


وخذي إليك الدفء من رجل تتشهاه النساء


وإذا رآك فشهوة حري تلظى في الدماء


أرمي الثياب يمل عليك فعلميه


كيف النساء تنال تغدو في يديه


وإذا فعلت تفرقت عنه الطرائد إذ رأت


ما كنت أنت تمارسين لديه” [7]




فتبرز إليه المرأة وتكشف له عن مفاتنها. ينسى إنكيدو صحبه من ذوات الظلف والحافر ويقترب من المرأة يلامسها وتلامسه، ثم يفئ إلى أحضانها ثلاثة أيام. وعندما يحاول القيام ليلحق بربعه يجد أن ساقيه لم تعودا قويتين وأنه غير قادر على الركض كالسابق:


ترك المليحة عائداً كي ما ينال رفاقه


فقد القوى


وأمامه مرت أراد لحاقها فتعرقلا


خارت قواه وبعدما ولت يخال مكبلا


متعثراً في جريه، ما العود في ما أقبلا




فيرجع إنكيدو إلى المرأة التى تبدأ تحدثه عن جلجامش، وعن مدينة أوروك وتقنعه بأنه لم يخلق لحياة البراري بل لحياة القصور، فيتوق إنكيدو للقاء جلجامش عله يحظى بصديق. ولكن كان عليه قبل ذلك أن يتحداه ويظهر قوته ونديته له. تقود المرأة إنكيدو إلى مساكن الرعاة، وهناك تلبسه الثياب وتعلمه أكل الخبز وشرب الخمر وأسلوب الحياة المدنية، وبعد فترة تنطلق به إلى أوروك:


هيا إلى “أوروك” فلنذهب معا


حيث المباهج جمة ومروِعة


وخناثهم [8] هم يرتعون على سعة


بثياب غيدٍ يزدهون ملمعة،


وكواهن للحب هنَّ على دعه


في فتنةٍ يمرحن لهواً بالحُلل


في شهوة يطفحن شوقاً للغزل


وعلى أسرتهن يسقين العلل


هو ذاك يا إنكيدو ويا حق الرجل


سأريكه جلجامش الفرح الثمل


انظر تأمل ممعناً أو في عجل


تلق الكمال رجولة لا تحتمل


جسد تزينه الحلل


شهواته تبغي البلل


هو ذاك القوي ومنك أقدر في العمل


ونشاطه ليلاً نهاراً لا يمل


“إنكيدو” لا تغل البطولة للبطل


“شمش” [9] الإله يمده فوق الأمل


“آنو” و “إنليل” [10] و”إيا” [11] دربوه


لا لن يكل


فهماً عميقاً زائداً قد لقنوه،


حتى اكتمل


“جلجامش” سيراك في أحلامه،


حتى تصل


من قبل أن تدنو إلى قدامه،


يا للرجل!”




وصل الاثنان إلى المدينة وهى في ذروة احتفال كبير، فابتهج الناس لرؤية إنكيدو وهتفوا إنه ند لجلجامش. سيدخلان في تنافس دائم وتستريح أوروك. وبينما جلجامش يخطو عتبة باب المعبد لأداء طقوس العيد، تصدى له إنكيدو في الساحة وتحداه، فدخل الاثنان في صراع اهتزت له جدران المعبد:


في ملتقى الأسواق في “أوروك” قد تم اللقاء


ما بين عملاقين قد وقفا لأحكام القضاء


قدم “لإنكيدو” تسد الباب، لكن لا عداء


وتصد “جلجامش” لا يدنو من الوجه المضاء


“جلجامش” أهوى على “إنكيدو” يبغي حده


“إنكيدو” رد على المليك يحد ويصده


وتماسكا كلِ يشد


وتجاذبا كلِ يهدد


خارا كما الثيران في ساح النزال


ودعائم الأبواب حطمها القتال


ثوران بل ثورا عراك لا يخال


مادت له الجنبات واهتز المجال




وكانت الغلبة أخيراً لجلجامش الذى طرح خصمه أرضاً ومنع حركته. وهنا تهدأ ثورة جلجامش ويرخي قبضته عن غريمه ثم يستدير ماضياً في طريقه، فيناديه إنكيدو بكلمات تمتدح رجولته ومروءته، وتكون فاتحة صداقة عميقة بين الطرفين. وما نلبث أن نجد إنكيدو مقيماً في القصر الملكي صديقاً وناصحاً للملك:


لكن “جلجامش” أخيراً شدَّه


وهوى عليه وتحته قد مده


قدمان ثابتان لا تتحركان


والغيظ قد ولى كما يمضي الدخان


وإلى فتاة العرس يمشي باتزان




عقب لقائه بإنكيدو غير جلجامش من سلوكه في الحكم والإدارة، وأرخى قبضته عن رعيته. وما نلبث أن نراه في حالة تأمل عميق في مسألة الحياة والموت، راغباً في الإقدام على فعل جليل يخلد ذكره عبر الأزمان بعد مماته. ثم يفضي بمكنون فؤاده إلى إنكيدو، ويطلعه على نيته في الشروع بمغامرة كبيرة تستهدف الوصول إلى غابة الأرز في أقصى الغرب وقتل حارسها “خمبابا”، الذى أقامه هناك الإله “إنليل” وأوكله برعاية المكان وحمايته. يجزع إنكيدو لسماع ذلك، فهو رأى الوحش “خمبابا” عندما كان يطوف البراري مع القطعان وناله منه الخوف الشديد، رآه يزأر في الغابة كعاصفة الطوفان ومن فمه تندفع ألسنة لهب وأنفاسه تجلب الموت الزؤام عن مسافة بعيدة :


فيقول إنكيدو يشير إلى الصعاب


“كيف المضي إلى تهاويل الشعاب؟


و”خمباباا” حارسها غضوب لا يهاب


وعيونه يقظى سهام أو حراب


“إنليل” أوكله خفيراً مستهاب


يحمي حراج الأرز مرهوب الجناب”




وبعد نقاش ومداولة رضخ إنكيدو لرغبة جلجامش الذى رد بتصميم قائلاً:


“من يا ترى يرقى “لشمس” في السحاب؟ [12]


ليس الورى لكنهم أهل السماء


الخالدون على المدى أهل القضاء


والناس في عمر يحدده الفناء


أعمالهم كالريح تذهب في العراء


هيا أنا أمشي أمامك لا عليك


وبحسبي التشجيع منك بما لديك


وإذا سقطت فشهرة اصنع ليا


ما كان “جلجامش” يوماً راضيا


طلب المحال فمات ليس مباليا”




ومضى الاثنان إلى معبد الإلهة “ننسون” للحصول على بركتها، فصلت “ننسون” إلى الإله “شمش”، حامي جلجامش، ودعته أن يحفظ ابنها وصديقه ويرجع بهما سالمين. وعند البوابة التى اجتازها البطلان في طريقهما خارج أوروك تجمع الناس لوداعهما، وأتى شيوخ أوروك لإسداء النصح لهما وتوصية إنكيدو بالسهر على سلامة صاحبه.




بعد رحلة مليئة بالمخاطر والأهوال، وصل الصديقان أطراف غابة الأرز واقتحما بوابتها المسحورة التى سببت شللاً لذراع إنكيدو، ثم أخذا يقطعان شجر الأرز. وما لبث صوت خمبابا أن سُمع من أعماق الغابة يتساءل عن الذى تجرأ على اقتحام الغابة وقطع شجرها. انقض خمبابا على الغريبين دون مقدمات، ودارت بين الطرفين معركة حامية الوطيس، مالت في البداية لصالح خمبابا، ولكن الإله شمش أمدهما بثمانية أنواع من الرياح هبت في وجه خمبابا وشلت حركته، فأمسكا به وقطعا رأسه وقدماها قرباناً لشمش.




عاد البطلان إلى أوروك وغسلا عنهما عناء السفر. وعندما أكمل جلجامش ارتداء لباسه الملكي، شخصت الإلهة عشتار إلى قامته الفارعة وهامت به حباً، وعرضت عليه الزواج منها معددة الهدايا والأعطيات التى ستمنحه إياها إذا قبل العرض. ولكن جلجامش رفض عرض عشتار مندداً بخياناتها المعروفة لعشاقها وأزواجها، وذلك بكلمات قاسية لاذعة جرحت كبيرياء الإلهة:


ما أنت إلا لبنة بجدار سور من صخور


حجر كريم نادر وبحوزة الخصم الجسور


خف جميل لائق لكن يزل عند المسير


ما صنت خلاً مخلصاً أبد الزمان على الدهور


بل أي زوج مفلح تبقينه؟ ذات الخدور!


هذي حكايا من عشقت، فضائح، يا للشرور!


“تموز” زوجك بالحداد بكيته في كل عام [13]

والطائر الشقراق قد أغويته حتى استهام

والآن في الأغياض يصرخ: وا جناحا!؛ يا حرام


والليث قد أحببته فأذقته المر الزؤام


ومصائداً له قد نصبت، وما ارتعشت، للغرام؟


وحصان سبق قد حببت أكان ذلك للرهان؟


جرياً ليتعب في المعارك وهو مشدود العنان؟


وسقيته ماءً وبيئا ثم أرسل للطعان


ولأمه “سيليل” [14] أحزان تعيش على الزمان


حقداً قدرت عليه لم تنس تصانيف الهوان


وكذلك الراعي نصبت له الشباك من الجمال


فاغتر مزهواً بحبك سيما بعد الوصال


ذبح البهائم، والشواء مقدم لك كي ينال


منك الرضى بعد الرضى لكن ذاك من المحال


فضربته فمسخته ذئباً يهيم على الجبال


وكلابه تنهال فيه عضوضة حتى الزوال


وهناك “إيشولانو” حارس البستان ذياك القدير


ولك الموائد عامرات قد أقام على الغدير


ما انفك يجلب من عناقيد التمور لك الكثير


فرميته بلحاظك السبع النوافذ في الصدور


ومضيت قائلة له: “إيشولانو” تعال إلى الخدور


هيا ومتعني، فقوتك الشهية لي سرور


يدك القوية مدها، خصري لها مهد وثير


“إيشولانو” يجيب بدهشة: فيم السؤال تبددين؟


أأكون جوعاناً وأمي تصنع الخبز العجين؟


لا .. لن أذوق طعامك المر المذاق، هو اللعين


ليس اليراع [15] بحافظ جسداً من البرد المهين


فضربته، ونبذته، ومسخته الخلد الأسين


وجعلت سكناه التراب فلا يعان ولا يعين


إن كنت قد أحببتني أفلا أكون له القرين؟”




ثارت ثائرة عشتار وعرجت صاعدة إلى السماء العليا، فمثلت في حضرة كبير الآلهة آنو وشكت إليه إهانة جلجامش، طالبة أن يسلمها قياد ثور السماء، الكائن الوحشي المهول، لتهلك به جلجامش، وهددت أنها في حال الرفض سوف تحطم بوابات العالم السفلي فيخرج الموتى ليأكلوا ويشربوا مع الأحياء وتعم المجاعة في الأرض. نزل آنو عند رغبة الإلهة الغاضبة وأسلمها قياد ثور السماء قائلاً:


“لك ما أردت وقد أذنت فهاكه الثور المهول


ثور يهدم أو يحطم أو يقتل إذ يجول


ثور يبيد الأرض يجعلها بواراً أو تحول”




فأطلقته في مدينة أوروك يعيث فساداً فيها ويهلك المئات من أهلها. ولكن جلجامش وإنكيدو ما لبثا أن تصديا للثور، وبعد صراع مرير قتلاه وقدما قلبه قرباناً للإله شمش.




بعد هذا الحدث الجلل، عقد الآلهة اجتماعاً في السماء وقرروا أن يموت واحد من البطلين عقوبة لهما على قتل خمبابا وثور السماء، ووقع الخيار على إنكيدو. وقع إنكيدو فريسة الحمى بضعة عشر يوماً، ثم أسلم الروح بين ذراعي جلجامش الذى راح يدور حول صديقه المسجي، كلبوة فقدت أشبالها وهو بين مصدق ومكذب، يبكي ويقطع شعر رأسه. احتفظ جلجامش بجثة إنكيدو ثلاثة أيام رافضاً تسليمه للدفن عسى من بكائه عليه يفيق من غيبوبته، إلى أن سقطت دودة من أنف الجثة التى أخذت تتفسخ. عند ذلك صحا جلجامش من هذيانه وتأكدت له الحقيقة المرة. أقام لإنكيدو طقوس حداد لائقة، ثم انسل من قصره وحيداً شريداً تطارده فكرة الموت. لقد تحول جزعه على صديقه الراحل إلى قلق على مصيره الشخصي وخوف من الموت:


وهناك في الظلمات حيث الخوف والرعب الولود


شئ يراه القلب مقطوع النياط من الوريد


العقل يُجلد، والشعور هو الشعور بلا ردود


إذ تذهل الألباب تُخلب والوجود بلا وجود


وهياكل الأموات لهي هياكل ترعى بدود


وهناك حولني المخوف إلى عجائب من قدود


فيداي ألبستا معاً ريشاً كما الطير النكود


ولبيت “أرشكيجال” [16] هناك يقودني ذاك الحقود


حيث الظلام مخيم من صار فيه فلن يعود


والدرب لا يمشي هناك إلى الوراء به المقود


أهلوه ذاكم شأنهم ظلماتهم ليل عتيد


وطعامهم طين وترب لا يسوغ ولا يفيد


ولباسهم كالطير، أجنحة، ولكن من قديد


النور ما عرفوا هنالك إنه ليل وهيد




تطوح جلجامش في البراري يصطاد الحيوانات فيغتذي بلحومها ويقنص الآساد فيرتدي جلودها. وهدفه الوصول إلى الحكيم “أوتناباشتيم”، المخلوق الوحيد الذى أنعمت عليه الآلهة بالخلود وأسكنته مع زوجته في جزيرة نائية تقع خارج العالم المعروف، وتفصلها عنه مفازات لا نهاية لها وبحر يموج بمياه الموت. كان عازماً على الوصول إليه بأي ثمن ليسأله عن سر الحياة والموت، وكيف يستطيع الإنسان تحقيق الخلود لنفسه:


“أو ليس يدركني إذا ما مت ذياك المصير


سكن الأسى قلبي وغلفه، وفارقني السرور


والخوف من موت يروعني ويسلبني الشعور


وأهيم في الفلوات لا خلي صحبت، ولا السمير


وإلى “أوتناباشتيم” أجري لا أكلُ من المسير”




وصل جلجامش إلى سلسلة جبال ماشو التى تحرس ذراها المتقابلة الفوهة التى تنزل منها الشمس إلى باطن الأرض، لتسير مسارها الليلي قبل شروقها من الطرف الآخر. وشرح جلجامش هدف رحلته للعقرب:


” من أجل جدي ذاك “أوتناباشتيم” جئت، اذا مُعيب؟


وإلى الذى في مجمع الأرباب صار له نصيب


كيما يفسر لي الحياة، وما الممات، أما يجيب؟”


فأجابه ذاك العقرب:


” فلسوف تمضي في الأسى تشكو الألم


حر وقر ما تعاني والنقم


وبكاء ناحبة ستبكي إن تُضم


فأهدأ، وعد من حيث جئت على أمم”


فيجيبه جلجامش:


“يا عقرب الجبل الأشم يا حارساً باب الجبل


أتظنني أنا أرعوي ويروعُني شئ خفي


لا لست أخشى، إنني أمضي إلى ما أقتفي


رغم الظلام وشره، والنور فيه يختفي


رغم المسافات التى حدثتني، ذا موقفي


ماض أنا ومصمم فأفتح لي الباب المنيع”




عندها سهَّل له البشر العقارب الموكلون بتلك الجبال، عبور مسالكها، ودلوه على أقصر طريق يوصله إلى أوتناباشتيم. عبر جلجامش مسالك جبال ماشو ووصل فوهة الشمس فنزل فيها ليصل عبرها إلى الطرف الآخر من العالم. وفي عمل معجز لا يقدر عليه سوى إله، اجتاز ممر الشمس السفلي في أقل من ليلة واحدة، وخرج من الطرف الآخر ليجد نفسه على شاطئ البحر الذى يفصله عن جزيرة أوتناباشتيم. وهناك تقيم سيدوري ساقية حان الآلهة، حيث يتوقف الخالدون للراحة وتناول الشراب. فزعت سيدوري لرؤية ذلك العملاق الأشعث الأغبر الذى يرتدي جلود الأسود، فدخلت حانتها وأوصدت الباب. فناداها جلجامش معلناً عن هويته وقصده، ولما اطمأنت إليه وفتحت الباب قص عليها قصته وطلب معونتها فكان أن ردت عليه قائلة:


“لكن صيدك يا مليك! بلا شباك


أهل السماء لما رأوا خلق الورى


حبسوا الحياة بهم وللناس الهلاك


فأفرح بيومك إذ تعيش هو النجاة


واجعل له عيداً نجا قبل الوفاة


والبطن أشبعه، “جلجامش” طيبات


وأمرح وغرد وابتسم، هذي الحياة


والجسم نظف، والبسن ثوباً قشيبا


دلل وليدك واجعلنه فتى نجيبا


واحمل لزوجك غبطة، وكن الحبيبا


ذاكم مداكم فأرضين به نصيبا”




تصادف وصول جلجامش مع وجود ملاح أوتناباشتيم المدعو أورشنابي في المكان يحتطب من أجل سيده. فدلت سيدوري جلجامش على مكانه، وأخبرته بأنه الوحدي الذى يستطيع بقاربه عبور مياه الموت، وذلك بمعونة رُقم حجرية عليها طلاسم سحرية.




إنطلق جلجامش كسهم مارق إلى حيث دلته سيدوري، وفي غمرة اضطرابه وهيجانه داس فوق الرُقم الحجرية التى كان أورشنابي يضعها جانباً وهو يحتطب، فبعثرها وحطمها. فقال له أورشنابي، بعد أن كشف له جلجامش عن شخصيته وأخبره بقصته طالباً منه العون على حمله إلى أوتناباشتيم، بأن يديه قد حالتا دون عبوره لأنه قد كسر الرُقم التى تعين المركب على اجتياز مياه الموت. وبعد تقليب الأمور على وجوهها، توصل أورشنابي إلى حل للمشكلة. فمياه الموت تبدأ حدودها بعد مسيرة طويلة في البحر، هى مياه راكدة والهواء فوقها ساكن، حيث لا ريح تدفع ولا مجداف ينفع، وحيث الرذاذ إذا تطاير يقتل باللمس. وقد ارتأى الملاح المجرب أن يعمدا إلى الدفع بالمردي، وهو مجداف طويل يستخدم عن طريق ركز طرفه السفلي في قاع الماء لا عن طريق التجديف العادي، فطلب من جلجامش أن يحتطب من الغابة مائة وعشرين مردياً طول الواحد منها ستين ذراعاً، ففعل جلجامش. أبحر الاثنان في المركب الذى قطع في ثلاثة أيام رحلة تستغرق في الزمان المعتاد والمكان المعتاد مسيرة شهر ونصف. ثم ولج المركب في مياه الموت، حيث طلب أورشنابي من جلجامش أن يبدأ باستخدام المردي. وكان عليه أن يستعمل كل مردي لمرة واحدة فقط ثم يتركه بعد الدفع إلى الماء، لئلا تمس يده ما علق عليه من ماء قاتل.




وصل جلجامش إلى أوتناباشتيم وقص عليه قصته وما جرى له ، ورجاه أن يخبره كيف استطاع تحقيق الخلود لنفسه من دون سائر بني البشر. فقص عليه أوتناباشتيم قصة الطوفان العظيم بجميع تفاصيلها وكيف انتهت إلى مكافأته بنعمة الخلود. فقد قرر الآلهة ارسال طوفان على الأرض يفني كل نسمة حية، وحددوا لذلك موعداً. ولكن الإله إيا الذى حضر الاجتماع وعرف القرار، نقل إلى الحكيم أوتناباشتيم ملك مدينة شوروباك قرار الآلهة، وأمره ببناء سفينة عملاقة يحمل فيها أهله ونخبة من أصحاب الحرف وأزواجاً من حيوانات البرية ووحوشها، ففعل أوتناباشتيم. وعندما أزفت الساعة وانداح الطوفان، أبحر أوتناباشتيم بسفينته وأغلق منافذها. دامت عاصفة الطوفان ستة أيام والمركب العملاق تتقاذفه الأمواج، حتى رسى في اليوم السابع على قمة جبل يدعى نصير. فتح أوتناباشتيم كوة وتطلع حدود الأفق، كان الهدوء شاملاً والبشر قد آلوا إلى الطين، فخرج وأطلق ركاب السفينة، وقدم بعض حيواناته قرباناً للآلهة. حضر الآلهة مسرعين لنداء نار القربان وقد تملكهم الندم على ما فعلوا، وعندما رأوا ما فعله أوتناباشتيم وكيف أنقذ بذرة الحياة على الأرض، فرحوا لذلك وقام إنليل باسباغ نعمة الخلود على أوتناباشتيم وزوجته مكافأة على صنيعه، وأسكنهما في هذه الجزيرة. ثم ينهي بطل الطوفان قصته بالقول إلى جلجامش: والآن يا جلجامش، من سيدعو مجلس الآلهة إلى الاجتماع من أجلك، فتجد الحياة التى تبحث عنها؟




بعد ذلك دعا أوتناباشتيم جلجامش إلى اختبار عسير يثبت من خلاله استعداده ومقدرته على قهر الموت الأكبر بقهر الموت الأصغر وهو النوم. فكان عليه أن يجلس في وضعية القعود ستة أيام وسبع ليال دون أن يطرق الكرى أجفانه. قعد جلجامش قابلاً تحدي أوتناباشتيم مصمماً على قهر النوم، ولكنه بعد وقت قصير غرق في سبات عميق استمر ستة أيام. وفي اليوم السابع هزه أوتناباشتيم فأفاق معتقداً أنه لم ينم إلا هنيهة. وعندما عرف حقيقة ما وقع له وتأكد من فشله في الاختبار، استعد لمغادرة الجزيرة ومعه أورشنابي الذى أمره أوتناباشتيم بمغادرة المكان دون رجعة ومرافقة جلجامش إلى أوروك.




وبينما هما يدفعان المركب بعيداً عن الشاطئ، شعرت زوجة أوتناباشتيم بالشفقة على جلجامش وهى تراه يعود خالي الوفاض بعد رحلته المستحيلة إليهم، واقترحت على زوجها أن يقدم له بعضاً مما قدم لأجله. نادى أوتناباشتيم جلجامش وأطلعه على سر نبتة شوكية تعيش في أعماق المياه الباطنية؛ مسكن الإله إنكي، وتحمل خصيصة تجديد شباب من يأكل منها إذا بلغ الشيخوخة. غاص جلجامش في القناة المائية التى تصل إلى الآبسو، مجمع المياه السفلية العذبة، رابطاً إلى قدميه حجراً ثقيلاً يشده نحو الأسفل، وهناك رأى النبتة فاجتثها بعد أن أدمت أشواكها يديه، ثم حل وثاقه صاعداً نحو الأعلى، وهناك عرضها أمام أوتناباشتيم وزوجته شاكراً، وقال لهما إنه سيحملها معه إلى أوروك ليجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم، وإنه سيأكل منها أيضاً عندما يكبر.




انطلق الاثنان في طريق العودة الطويل. وفي إحدى المحطات التى توقفا عندها للراحة، رأى جلجامش بركة ماء بارد فنزل إليها واستحم بمائها تاركاً النبتة عند الضفة. فانسلت حية إلى النبتة وأكلتها وبينما هى راجعة إلى وكرها تجدد جلدها. جلس جلجامش عند الضفة وقد انهار تماماً بعد أن فقد الأمل حتى في تجديد الشباب، وقال لأورشنابي وهو يبكي بكاءً مراً:


“أضنيت جسمي يا صديق!


وبذلت من جسمي الدما فلمن ترى جزت المضيق؟


لم أجن من ذا نعمة ليَّ، للأفاعي ما أريق


وحملتها جُل الطريق، فجاء من قطع الطريق


إني عرفت نهايتي مذ كنت أمضي للنبات


شاهدت رمزاً قال لي: لا .. لن تجدها الحياة


فعلمت أني خائب من حين فتحت القناة [17]




يتابع الاثنان طريقهما دون أن يعطينا النص أية تفاصيل مهمة عن رحلة العودة. وعندما يصلان أوروك، يشير جلجامش إلى سور أوروك الذى بناه قائلاً لأورشنابي “أي أورشنابي، أعل سور أوروك إمش عليه، إلمسن قاعدته، تفحص صنعه آجره. أليست لبناته من آجر مشوي، والحكماء السبعة من أرسى الأساس”. وعند هذه الأبيات التى تكرر ما ورد في بداية النص، تنتهي الملحمة، ويختتم الكاتب أحداثه بمثل ما بدأها من وصف أوروك.




تحليل بعض مواقف الملحمة


المفارقة: لنبدأ بالنظر إلى الفقرة الأخيرة من “مقدمة الملحمة”:


أسوار “أوروك” المنيـعة عاليـات قـد بنى [18]


“لإيان” قـد رفـع البناء، وعنبراً قـد زينـا [19]


أنظـر تأمل فـالجـدار موهج مثل النحاس


وإذا دخلت فلا شـبيهاً إذا نظـرت به يقاس


هل تلمس العتبات أرساها الزمان على أساس؟


تتجلى المفارقة هنا في أن المتحدث يفترض أن المدن الكبيرة لمدنيته لازالت باقية وأننا نحن القراء يمكننا مشاهدة تلك المدن, لكنه حتى القرن التاسع عشر ظلت أطلال تلك المدن العظيمة في أزمان ماضية مطمورة كلياً تحت الرمال. مفارقة أكبر وإثارة أشد للمشاعر أن الدرس الأعظم الذى يتلقاه جلجاميش هو أن “لا شئ دائم”. هذه هى الرسالة التى سلمت لجلجامش في نهاية الملحمة، ومع ذلك لم يستوعب مؤلفو الملحمة الرسالة. ظنوا أن مدنيتهم كانت أبدية.




الشعر والتحدار الشفهي: وأنت تقرأ الملحمة، ستلاحظ احتمالا أن العديد من الأبيات تتكرر، كلمة بكلمة. لماذا؟ هذه سمة تميز التحدار الشفهي الملحمي، أي أن هذه الملحمة نقلت من جيل إلى جيل عن طريق الشعراء الذين حفظوا القصص. كانت قصص ملحمة جلجاميش وملاحم العالم الشرقي العظيمة قد علقت في الذاكرة في تراث قصصي روائي طويل قبل أن يتم تدوينها. إذا كان عليك أن تحفظ كل هذه الملاحم أو لن يكون عليك تكرار ذلك بأكبر قدر مستطاع؟ إلا أن هذه المسألة الخاصة بالتحدار الشفهي هى مسألة معقدة، لن نتعرض لها الآن. إننا نبحث في الملحمة عن مفاتيح لما كان عليه أولئك الناس. هذا النص هو كل ما نملك، لكنه يقول الكثير.




الموضوعات الرئيسة


أولاً، إشكالية الملكية: لا بدَّ أن يكون الملك راعياً للناس، هكذا يقال لنا، لكن جلجاميش لا يتصرف بصورة جيدة فهو:


جلجاميش لا يترك ابنا للأب الراعي الرحيم


والظـلم مقترفا على مـر الليالي ما يقيم … الخ النص كما أوردناه أعلاه.


الإجابة على هذا السؤال أنه يحتاج إلى رفيق ملائم. يخلق آنو إنكيدو من السماء، الأرض.


أخيراً، ما الذى يجعل جلجاميش ملكاً جيداً؟




ثانياً، طبيعة العلاقة بين جلجامش وإنكيدو.


أ. حب جلجامش الجم لإنكيدو


هنا ينتاب “إنكيدو” سكون ولون الـمـوت يلبســـه الجبين


فيـصـرخ ملء فـيه “لا لمـوت وإنكيدو لـه الدنـيـا خـديـن”


تجمـع حـوله أشـياخ “أوروك” وكل فــوق جـبهته غـضــون


فصاح بهم جميعاً:”يا لقومي! أصابتني بإنكيدو الشجون”


تعالوا يا شــيوخ الأرض إني ســأبكى والعيون لها شــؤون


سأبكى والهاً، أبكى صديقي كما النسوان تسعفها العيون


سلاحي كاملاً قد كان جنبي ودرعي بعده أضحت تهون


وكان كمديتي شدت يميني وكان الترس يحميني، يصون


بعيدي حُلَّة، ترتاح نفسي إليها، ما تساورني الظنــون


وحيداً كان مفتاح الأماني وأفراحي تلاشت، لا تكـون


كذا حتى دنا شيطان همي تناول فرحتي، وهـوت متون
بـ. عنصر السخرية:



أماه! في حلمي رأيت من العبـر

في الجـو حشداً من نجوم تنهــمر

كشهاب “آنو” الثاقب العزم المكر

فهوى علىَّ كما تصاريف القـدر

نجـم عظـيم رمـت أنى أدفـعـه

فـوجدته طوداً تطـامن موضعه

سكان “أوروك” عليـه تجمعـوا

وتجمهروا وتألبـوا وتوضــعـوا

يتدافعون، وحوله مثل السـوار

قـد قبلوا قدميه تقبيل الصغـار

أثناء ذاك عليه ملت كما أميل على النساء





شـاهدت يا أمـاه حلمـاً ثانيـاً

شاهدت في “أوروك” فأساً في العراء

والناس يجتمعـون يبغـون إجلاء

سـكان “أوروك” المنيعـة رُوَّعـوا

وتحلقـوا من حولهـا وتجمعـوا

لكن، على قدميك تحت، أخذتها فوضعتها

وهناك ملت كما أميل على فتـاة نلتهـا

نـداً نظيـراً لي أنا سويتهـا

وتقول له أمه ننسون أن الحلمين لرفيق ستمنحه إياه.







ثالثاً، الإختلافات الثقافية

المدهش هنا أن هذا هو ما يبتغيه كل إنسان. ما نراه هنا هو اختلاف ثقافي في السلوك تجاه اشتهاء المماثل.

أ. الحب بين الرجال

لماذا وجد اشتهاء المماثل قبولاً في العالم القديم، بل حتى شجع في هذه الحالة؟ انظر إلى دور النساء للإجابة على هذا السؤال. يشتاق جلجاميش إلى نظير، لكن لا أحد يذكر امرأة لذلك الدور. لماذا؟

بـ. الخوف من النساء



ما أنت إلا لبنة بجدار سور من صخور

حجر كريم نادر وبحوزة الخصم الجسور … الخ النص كما أوردناه أعلاه



“يا أيها الصياد يا هذا الفتى خذها معك

من كاهنات الحب تكسر بالأنوثة ما امتلك

وإذا الفتى ورّد المياه وصحبه كى يستقيها

نضت الثياب وراودت في فتنة يعنو لديها

وإذا رآها هكذا لا بدَّ مقترب اليها

فاستنكرته في الفيافي عصبة يحنو عليها



رابعاً، دور المرأة في العالم القديم

سبب العلاقات العاطفية القوية بين الرجال كان مرتبطاً بدور النساء.

يمكننا التوصل إلى الكثير من المعلومات عن دور النساء من ما هو غير وارد في النص. النساء غير موجودات في هذه القصة؛ بالتالي…؟

أى نوع من النساء نجده هنا؟ هل هناك أية زوجات؟ ننسون، التى هى إلهة، وعاهرة المعبد، وعشتار إلهة الحب. هل من أية امرأة عادية؟

في جزء القصيدة حيث يرثى جلجاميش رفيقه إنكيدو جاء:

وتبكيك الليالي لا كلال وتبكيك النهار غداً تلول

بأوروك الفسيحة فليظلوا شيوخ يندبونك والقبول

شيوخ باركوا سفراً نوينا إلى أرز الجبال وحيث غول

صدى أناتهم رجع البراري كأمك إذ تنوح ولا عدول

سباع البر تبكيك الليالي ضباع أو فهود أو وعول

لتبك الغاب رائدها المرجى لتبك الأسد والنمر القتول

ليبك عليك “أولى” قد مشينا على شطآنه وهو الطويل [20]

أتذكره الفرات على الشواطى وكان الماء في القرب العليل

سيبكيك الفرات بكل حين وفي أوروك يبكيك الشبول

ولن ينسوا مواقعنا، وقتلاً لثور في المدينة لا يقيل

ليبك عليك من كانوا رواة لمدحك، في المدينة، قد أحيلوا

ليبك عليك من لم يعرفوك الذين يصمهم نعى جليل

ليبك عليك من صنعوا طعاماً ومن وضعوا الموائد لا تزول

ليبك عليك من كان الندامى وصبوا الخمر في كأس تصول

هذه القائمة الطويلة التى بكت إنكيدو لم تشر إلى زوجة. تأتى في ترتيب متأخر للغاية في قاع القائمة

وكاهنة أرتك العيش حلواً لتبك عليك والهة تقول:

بزيت طيب ضمخت “إنكى” وإن سكتت يرن بها العويل



وحين قالت فتاة الحان لجلجامش:

دلل وليدك واجعلنه فتى نجيبا

واحمل لزوجك غبطة، وكن الحبيبا



خامساً، طبيعة الآلهة

يمكن أن نعرف الكثير عن الناس من خلال آلهتهم التى يتعبدون إليها. لماذا يعبد الناس الحب الجنسي، والقمح، والشمس، والعاصفة؟ هناك كافة جوانب الخصوبة؛ عبدوا الآلهة المكرسة للخصوبة من أجل البقاء. الخصوبة الجنسية كانت بذات أهمية الخصوبة الزراعية بل حتى يعتقد بإرتباطهما.

سؤال مثير بخصوص الدين: ما الذى يأتي أولاً الدجاجة أم البيضة: هل يأتي نظام معتقدات، دين أولاً، ثم سلوكيات الناس؟ أم أن سلوكيات الناس تشكل العقيدة الدينية وتعكسها؟

ما هى علاقة الإنسان بتلك الآلهة؟ هل هى آلهة عطوفة محبة؟

أنظر إلى معاملة عشتار لجلجامش عندما رفض إغراءاتها:

“إني سأجرى الثور من لدن السماء على الرعاة [21]

يقضى على كل السوائم والمزارع بالشتات

يقضى على “جلجاميش” يجتث من فمه الحياة



ويقرر كل من آنو، وإنليل، وشمش أن واحداً من الرفيقين، لكونهما قتلا ثور السماء خمبابا، لا بدَّ أن يموت – إنكيدو.

لماذا يخلق الناس آلهة بهذا القدر من النزوية وعدم الإهتمام بالحياة الإنسانية؟

ماذا بشأن هذا الجزء من العالم، والموقع الجغرافي، والمناخ؟



الخوف من الموت

في حزن جلجاميش على إنكيدو هناك عنصر آخر. يحزن جلجاميش على صديقه، لكنه يحزن على شئ آخر. إنه مواجهة الفنائية. لماذا يكون الخوف من الموت عظيماً؟ لماذا لا يريحهم دينهم ويواسيهم ويعطيهم الأمل؟ الحياة الأخرى. لماذا هى بهذا القدر من الظلمة؟ كيف يتناقض هذا مع الحياة الآخرة في الإسلام؟

ولبيت “إرجالا” هناك يقودني ذاك الحقود [22]

حيث الظلام مخيم من صار فيه فلن يعود

والدرب لا يمشى هناك إلى الوراء به المقود

أهلوه ذلكم شأنهم ظلماتهم ليل عتيد

وطعامهم طين وتراب لا يسوغ ولا يفيد

ولباسهم كالطير، أجنحة، ولكن من قديد

النور ما عرفوا هنالك إنه ليل وهيد



فكرة الفنائية:

“كيف لى أن أستريح كيف لى أن أكون في سلام”

ذاكم صديقي قد حببته ثم مات

وإلى تراب قد تحولت الرفات

أم أنني ألقى البقا أحيا أنا أبد الأبد

لا الموت ألقى، لا أرى إلا نشيطاً في جسد؟

الموت أخشى، إنه قدر فظيع هل يُرّد؟



سادساً، أهمية الشهرة

لماذا كان مهماً لجلجامش أن يصل إلى الشهرة؟ هل لهذا ارتباط بالدين؟ يقول جلجاميش لإنكيدو:

وإذا سقطت فشهرة أصنع ليا

ما كان “جلجاميش” يوماً راضيا

طلب المحال فمات ليس مباليا



وعندما خاف إنكيدو على صديقه، أجابه جلجاميش:

من يا ترى يرقى “لشمس” في السحاب؟

ليس الورى لكنهم أهل السماء

الخالدون على المدى أهل القضاء

والناس في عمر يحدده الفناء

أعمالهم كالريح تذهب في العراء



نسب للآلهة فضل إثارة رغبة كسب الشهرة، بالتالي فإن هناك عقلانية دينية في سعى جلجاميش إلى الشهرة.

الإيمان بالقضاء والقدر: تبدو الفكرة أن كل ما يخطر بالذهن لا بدَّ وأنه معطى من الآلهة.



سابعاً، درس جلجامش

أ. يقول جلجاميش لسيدورى لما لم يتعظ متمسكاً بسعيه لعالم الخلود:

“أين الطريق وأين “أوتناباشتيم” قولي، لا محال

كيف الوصول إليه؟ يا أختاه! كم أرجو الوصال!

فلأقطعن البحر بحثاً أو أظل بذا الضلال”



فما كان منها إلا أن أجابته:

“أي “جلجاميش”! ما من مجال

هذي بحار عاصيات، ما استقادت للرجال

شمش القدير ينالها صبحاً مساءً من ينال

هذي البحار سواه؟ يا “جلجاميش” الصعب السؤال!

صعب عليك عبورها، وعبورها صعب المنال

فيها مياه الموت تمنع من يريد لها العبور

من أي نحو إن سلكت فلا ملاذ سوى القبور



بـ. أتناباشتيم:

أو ما ترانا قد بنينا ما بنينا للفناء

وعقودنا لا ليس تنجو من تصاريف القضاء



لقد ذهب الباحثون مذاهب شتى في تفسير النص. تفسير مباشر يرى في أن الخلود الشخصي يمثل الفكرة الأساسية في أحداث الملحمة. ومعظمهم يرى في بحث جلجامش عن الخلود وفشله في تحقيقه لنفسه درساً عن استحالة الحصول على الخلود الشخصي لبني الإنسان، لأن الآلهة، كما ورَّد في النص:

أهل السماء لما رأوا خلق الورى

حبسوا الحياة بهم وللناس الهلاك



فإذا كان جلجامش الذى ولدته الإلهة “ننسون” من أب بشري، فجمع إليه خصائص الآلهة والناس في تكوين متفوق، قد فشل في تحقيق الخلود لنفسه فما بالك بالأشخاص العاديين، غير أن النص، في تقديري، يبوح برسالة مختلفة تماماً يمكن أن تلخيصها في قول طاغور “آه يا روحي لا تطمحي إلى الخلود بل استنفذي حدود الممكن”.



هوامش

(1) الثور : من رموز الآلهة البابلية يستخدم لاظهار القوة الكبرى

(2) آرورو : الإلهة الأم، وأول معبودات الإنسان، من أسمائها في بلاد الرافدين (ننماخ) و (ننخرساج) و(مامي)، وهى ربة الخلق والولادة وصانعة الجنس البشري، وهى التى خلقت إنكيدو من طين.

الأبيات بين المزدوجتين هو شكوى شعب أوروك من مظالم جلجامش.

(3) الإله هنا هو (آنو) كبير الآلهة وإله أوروك.

(4) نانورتا أو نينورتا : إله الحرب والهواء وفيما بعد إله الحيوانات، وهو إله الخصوبة والري، واسمه قديماً “نينجرسو“.

(5) ساموقان : إله الماشية والرعي، والمقصود أن إنكيدو كان يلبس ثياب من جلود الحيوان.

(6) الأبيات بين المزدوجتين من كلام الصياد إلى كاهنة الحب.

(7) الخناث : شباب مخنثون

(8) شمش : إله الشمس عند البابليين وهو ابن القمر وأخو عشتار ويعد رباً للعدالة والقانون.

(9) إنليل : إله الهواء والعاصفة المدمرة وهو ابن آنو وكلمته.

(10) إيا : إله الحكمة وفي السومرية كان يُسمى إنكي.

(11) إشارة إلى أن جلجامش في رحلته إلى غابة الأرز مؤيد بالإله شمش.

(13) تموز : هو زوج عشتار وقد أرسلته إلى العالم السفلي ثم راحت تبكي غيابه في كل عام، وهو إله النباتات الميتة.

(14) سيليلي : وهى أم الحصان فرس إلهية.

(15) اليراع : القصب، والمقصود أكواخ القصب.

(16) أرشيكجال : إلهة العالم السفلي عالم الأموات.

(17) القناة : مجرى ماء اجتازه جلجامش في الطريق إلى الأعماق حيث النبتة العجائبية التى تعيد الشيخ إلى صباه.

(18) أوروك: مدينة عاصمة الملك جلجامش، واسمها في التوراة (إرك)، وهى الوركاء الحديثة جنوب بابل.

(19) إيانا: حرم المعبد في أوروك المكرس لكبير الآلهة آنو والإلهة عشتار.
1) حلم جلجامش بشهب يقذفه آنو: 2) حلم جلجامش الثاني: يحلم بفأس 3) اللافت للانتباه أنه في اللحظة التى هم فيها جلجاميش الذهاب إلى الفراش لمضاجعة عروسه، ينبرى إنكيدوا ساداً عليه الطريق ويبدأ بينهما الصراع. هناك علاقة بالطبع بين العنف، والعدوان، والجنس. يحترف جلجاميش مغازلة النساء لكنه يبدأ في التعلق كلياُ بإنكيدو. 1) عشتار والمجازات المعادية للإناث التى يستخدمها جلجامش ضد عشتار: 2) ترفض الحيوانات المتوحشة إنكيدو بعد أن عاشر إمرأة، كما لو أن معاشرة المرأة أمر ملوث:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق