الثلاثاء، 31 يناير 2012

أظافر تركيب

استيقظت في الفجر هادئة النفس و الملامح, لم يكن هناك ما يعكر صفو مزاجها. تذكرت ذاك الفجر القديم الذي إعتادت الإستيقاظ فيه قبل الجميع, تذكرت بعض الوجوه التي أحبت و أخرى لم تترك في نفسها أثرا إيجابيا أو سلبيا, حاولت ان تعود الى نومها و لكنها لم تستطع و دون سابق إنذار تذكرت يوما استيقظت فيه على صراخ طفلها الذي إزداد عندما لامسته في سريره.
خاف منها, خاف من لمستها بيدين لم يعرفهما الصغير أو ربما لم يكن قد إلتفت لما بهما من تشوه
كلاهما كان صغيرا و عنيدا, عنيدا جدا, عانقته قبلته نظرت في عينيه الباكيتين حتى استأنس لها و عرف أنها أمه و لا أحد سواها إلى جواره هدأ.
من هنا بدأت رحلتها مع خوفه هل بدأ يعي مدى ما بها من قبح يرعبه أم أنها مجرد تهيؤات راودتها, تذكرت البيانو فاتجهت إليه و بدأت تعزف بأناملها عليه لتنساب الألحان عذبة شجية يحبها الصغير, الصغير الذي عاد إلى نومه أيقظ فيها تضاربا كبيرا بين فخرها بما أنتجته دكتاتورية عربية و بين خوفها من كره الطفل لشكلها, أرادت أن تنسى, أن تفرح, أن تبدأ حياة جديدة معه, لا أحد سواهما في هذا الكون يعرف ما يربطهما ببعض.
خافت عليه من جهله بأمه, خافت عليه من الخوف الذي عاشته و خافت عليه من قبح الكون.
إتصلت بطبيب العائلة و طلبت منه زيارتها و لم يتأخر الثاني فقد كانت تحظى برعاية خاصة في كل شيء, أعدت القهوة و إذ به يطرق على الباب بحقيبته الجلدية الكبيرة و نظارته المربعة و إبتسامة في وجهه البارد منذ الأزل, إستقبلته و بينما يتناولان فنجان القهوة أخبرته انها تريد حلا لقبح يديها بالتحديد فتفاجأ سائلا ألم ترفضي من قبل أي عملية تجميلية ليديك رغم أنك أزلت تقريبا آثار الحروق و الندبات و الجروح الأخرى خلال رحلة علاجك و رغم ما تحملته في تلك الفترة ما الذي أعاد الموضوع لديك إلى نقطة الصفر؟ هل تحتاجين إلى طبيب نفسي تتحدثين إليه أولا؟
ابتسمت له بكل هدوء و استطردت: "استيقظ صغيري باكيا هذا الفجر وما ان دخلت عليه و حاولت حمله حتى شعرت بالرعب في عينيه يتنامى من يدي, ليس هاجسا فالصغير لم يهدأ إلا بعد اختفاء يدي عن ناظريه و إلتقاء عينيا لم يهدأ الا بعد ان شم عطري و ارتاح على صدري فتذكرني، أنا أمه التي يحب, صغيري أيقظ الخوف في نفسي و لا أريده أن يكرهني خوفا من قبحي لا أريده ان يتجنب لمستي خوفا من يدي لقد بدأ يعي ما حوله و خوفه من لمستي قد يتطور في المستقبل الى رفضه لها و لي بالتالي و انا لن أحتمل ان يرفضني ملاكي, هو لا يعلم بعد ان ليس لي سواه في هذا الكون و ليس له سواي و لكني أعلم و لابد من أن أحافظ عليه و على رابطنا"
صمت الطبيب, صمت طويلا و هو يحتسي قهوته بدا حزينا يتألم حتى رأت الدمع ينسال على خديه ثم قال لها: "أنا لا أفهم سبب الوحشية على هذه الأرض, مازلت أذكر أول يوم إلتقيتك فيه."
فسألته:" حقا تذكره؟ انا لا أذكر الكثير منه"
فرد عليها محاولا الإبتسام: "كنتِ حينها في المستشفى و طـُـلب مني التعرف بك فقد كنت ضمن نطاق مسؤوليتي في المدينة إستغربت من إتصال المحافظ بنفسه لهذا الأمر و لكني توجهت الى المستشفى عصر ذاك اليوم, تحدثت إلى الأطباء المشرفين على حالتك, و كانت صدمتي الأولى من التقارير و الصور التي رأيت، لم يكن قد مر على وصولك 3 أيام, لم أستطع تخيل ما كنت به من ألم تصورت أني سألتقي جثة هامدة على السرير ربما ترفض الحياة و ربما ترفض الإنسانية التي خذلتها كثيرا, تحدثت إلى المحققين الذين تواجدوا لكي يكون الإجتماع مكتملا فنعرف جميعا هول ما حدث و نصدم أكثر و لكن صدمة أطباء المستشفى كانت أكبر من صدمتي لأنهم تعاملوا معك على مدى ثلاثة أيام لم أكن أنا فيها موجودا على الخريطة, تعاملت مع الأمر كأي طبيب لم يعرف مريضه بعدما سمعت تفاصيل عودتك الى هنا و عرفت من التقارير الطبية ما تعرضت له, أحد لم يتحدث عن صبرك و عن قوتك, أحد لم يذكر انك رغم الخوف الكبير الذي يسكنك مازلت تبتسمين و تقفين على قدميك كل يوم و لا أحد سواك يفتح ستارة النافذة كل صباح لتري الشمس تشرق على العالم لم يخبرني أحد بذلك كله, توجهت إليك و انا أنتظر رؤية الموت حيا على قدمين لأجدك حياة و أمل تشيع في نفوس من حولها النور, كنت قد شاهدت بعضا من صورك قبل ان تغادري البلاد مرفقة بالملف و شاهدت صورا للجروح و الحروق و الكدمات و الإصابات الأخرى لكني لم أر صورة لوجهك بعد ما تعرضت له من تعذيب, توجهت إليك و أصبت بذعر حقيقي و انا أرى زاوية من وجهك و انت تتناولين كوب الشاي أمام نافذة غرفتك, اوقعني يومها الذعر في الأرض و لم أتمالك نفسي و لم أدخل إليك, عدت الى غرفة الأطباء و تناولت مهدئا و بعد مرور ساعة توجهت إليك مجددا"
كانت تسمعه بصمت و الدموع ملء عينيها كانت تسمعه و تتذكر تفاصيل أيامها تتذكر كيف وصلت الى حال ترعب ناظريها و عندما لحظت صمته ابتسمت له و أخبرته انها مرحلة و انتهت و لكن البداية متعثرة بعض الشيء.
قال لها لدي المزيد لأقوله لك و استطرد: "تعلمين اني أشارف على سن التقاعد و لكني لن أتخلى عن علاقتي بك فأنت الحالة الوحيدة التي ربطتني بها الإنسانية مدى الحياة أنت الوحيدة التي جعلتني أرى في العالم قبحه و جماله انت من ساعدني على إيقاف عبثية العمر والاهتمام بمسائل كحقوق الإنسان لم تكن تخطر لي ببال من قبلك, والبحث دفعني للتعرف على عوالم لم أكتشفها في سن مبكرة و لكنك فعلت, أنت أنرت الطريق لي و لبعض الإطباء في المستشفى للبحث في قضايا اللاجئين عبر العالم و البحث في ملفات الأمم المتحدة, رغم كبر سننا انت أنرت لنا الطريق و إصرارك على الحياة جعلنا أكثر إصرارا على إنقاذ الحياة, هل تكتبين يومياتك؟"
ابتسمت و هي تتناول آخر رشفة من فنجانها و أومأت برأسها أنها لا تفعل و بدا الحزن على وجهها و في عينيها ذعر كبير, انتظر ان تستطرد بصمت فقالت له: "في بداية علاجي النفسي و بعد فشل كل المحاولات العلمية طلب مني الطبيب أن أكتب ذكرياتي و فعلت استدعيت كل ذكرياتي على الورق و كتبتها و لكن الأمر لم يكن بالسهل كنت أرسل إليه كراسة كل اسبوع يترجمها حتى انتهيت انا من الكتابة و هو من الترجمة و إلتقينا في عيادته مجددا, أول سؤال طرحه علي ما جدوى الحياة إذا و لم أملك ردا لذاك السؤال حينها و مازلت لا أملك واحدا, حاولت أن أكتب يومياتي و لكنها تحولت إلى ربط بالذكريات القديمة بكل ما بها من ألم فتوقفت عن الكتابة مثلما توقفت عن النوم خوفا من الكوابيس و عن الحلم خوفا من غد لا أجد فيه نوري و لا نور الآخرين, تقلصت مفرداتي و انضمرت كل الآمال و لم بيق لي سوى العمل و العمل و العمل و من ثم هذا الصغير الذي يحتاجني في كل لحظة, بات علي مسؤولية أكبر مني و هي حقوق الإنسانية جميعا فلا أحد مهما كان مجرما يستحق ان يحيا ما حييت لا أحد يستحق الحزن و نحن نملك في عالمنا القدرة على العدل و القدر الكافي من الحرية ليتمتع المرء بحقوقه و يقدم واجباته, لا أملك سوى العمل كي أورث صغيري عالما يعيش فيه أفضل مني, يعيش فيه بأمان و يستنشق فيه الحريه و انا أعني العالم أجمع لا بقعة واحدة منه, العالم يحتاج لصوت يثير براكينه ان كان اليوم على مستوى الأفراد ربما يكون الغد على مستوى المجتمعات و بعده على مستوى الإنسانية, لأجل هذا كله توقفت عن كتابة يومياتي لعلي أحظى بذكريات أفضل مما أملك فأكتبها في غد أفضل مما نملك من يومنا هذا."
تابع هو: "حسنا مادام كل شيء اليوم لأجل صغيرك في الغد علينا ان نبدأ البحث عن طريقة تستعيدين بها شكل يديك"
أجابته: "لا يهمني شكل يدي لكن ما يهمني أن لا أرعب الصغير منها الكسور التي في المعصم مازالت تتسبب لي بالألم في بعض الأحيان و لكن هذا ليس بمهم فالألم هو نبض الذاكرة, و لكن خوف الصغير هو الأهم لابد من ان نخفي هذا القبح بأي شكل."
أمسك بهاتفه و أجرى مكالمة ثم عاد إليها ليخبرها: "يقول الطبيب انه يحتاج لرؤية يديك و ربما سنحتاج لبعض الأشعة فقد يكون لديه حلا سريعا و قد يتحول الى حل دائم موعدنا في المستشفى بعد ساعتين هل تحتاجين لشيء آخر قبل رحيلي؟"
ابتسمت و شكرته و اتفقا على اللقاء في المستشفى
بعد الأشعة و المعاينة كان رأي الطبيب زرع أظافر جديدة مكان تلك التي اقتلعت و لكن هذه الزراعة مؤقته لأنه سيعمل على ربطها بجذور الأظافر التي بدأت تتكون حتى يلفظ الجسد الغريب عنه و تعود الأظافر العشرين الى مكانها بشكل طبيعي, وصف الطبيب الأمر و كأنه عملية إعادة بناء خلية كما يحدث في رحم الأم تبنى الخلايا لأول مرة و تتكون هو سيعيد هذه العملية حتى تستعيد هي عشرين إصبعا طبيعيا تتعامل بهم مع الحياة

و بعد مرور 48 يوما عادت فعلا الى الحياة بأصابعها الكامله لا المبتورة أجزاؤها عادت لتعزف البيانو مجددا
وعادت لترى الفرح في عيني صغيرها الباكي

هناك تعليقان (2):